دراسات إسلامية 

أحكام البيع بالتّقسيط

ومسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي

(3/3)

 

بقلم : العلامة الفقيه الكبير محمد تقي العثماني

نائب رئيس دارالعلوم بكراتشي / باكستان

 

     وقد استدل بعض المعاصرين على جواز هذا التعويض بأن المنافع المغصوبة مضمونة على الغاصب عند كثير من الفقهاء ، وفيما يعدّ للاستغلال عند الحنفية أيضًا ، ولكن هذا الاستدلال لايصح بالنقود المغصوبة ، فإن منافع المغصوب إنما تضمن (عند من يقول بالضمان) في الأعيان المغصوبة ، لا في النقود ، حتى لو اتجر بالنقود المغصوبة وربح فيها، فالربح لايقضى به للمغصوب منه في أصح القولين عند الشافعيّة.(1) وهذا في الربح الذي تحقق فعلاً، فما بالك بالربح المتوقع فقط .

     ومن أجل هذا قال النبي في المديون المماطل: «ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه» ولم يقل: «يحلّ ماله» ولايوجد في الفقهاء والمحدثين من فسّر العقوبة هنا بعقوبة ماليّة ، على اختلاف بينهم في جواز التعزير بالمال. ولو فسّرها أحد بذلك ، فإن العقوبة إنما يحكم بها الحاكم ، لا الدائن نفسه ، فكيف تنطبق هذه العقوبة على التعويض الذي يطالب به الدائن نفسه بدون حكم أيّ حاكم ؟ ولو فوّض تنفيذ العقوبات الشّرعية إلى احاد النّاس بدون حكم الحاكم، لأدى ذلك إلى فوضوية لايقبلها شرع ولاعقل .

     هذا ما أراه بالنسبة لأصل فكرة التعويض ، من الناحية النظرية . أما من الناحية العملية ، فإن الفوارق الأربعة التي ذكرناها بين الفوائد الربوية وبين التعويض، فإنها بالنظر إلى تطبيقها العملي فوارق نظرية محضة ، لاتخرج إلى حيز التطبيق العملي إلا في أحوال نادرة لاتصلح أن يدار عليها الأحكام .

     أما الفرق الأول ، وهو أن التعويض لايُطالب به من قصّر في الأداء من أجل الإعسار، فإن إعسار المديون ويساره من الأمور التي يتعذّر على المصرف التثبت فيها في كل قضية منفردة ، فإن كل مديون يدّعى أنه معسر، ولاسبيل للمصرف إلى أن يقنعه بكونه موسرًا على خلاف ما يدعيه ، إلاّ برفع القضية إلى المحكمة ، ولذا ، فالواقع العمليّ الذي تسير عليه المصارف الإسلامية الّتي تقرّ بمبدأ التّعويض ، أنّها تصرّح في اتفاقياتها بأن المديون يعتبر موسرًا إلا في الحالة التي قضى عليه فيها بالإفلاس قانونًا . ومن المعلوم أن الإفلاس القانوني حالة نهائية لاتوجد إلا نادرًا . ومن المتيقن أن هناك كثيرًا من الذين لم يحكم عليهم بالإفلاس ، ولكنّهم معسرون بكلّ معنى الكلمة . وحينئذ ، كيف يمكن أن يقال : إن المصارف الإسلامية لاتطالب بالتعويض في حالة إعسار المديون ؟

     ومن المعلوم أيضًا أن من أقرض إنسانًا بفائدة ربوية ، فإنه لايسع له في حالة إفلاس المقترص إلا أن يأخذ بقدر يوجد عنده ، لم يبق في هذا المجال فرق يعتدّ به ، بين تقاضى الفائدة مطالبة التعويض.

     وأما الفارق الثاني ، وهو محاسبة التعويض بعد شهر من حلول الأجل ، فإنه على تقدير كونه معمولاً به في المصارف ، فرق صحيح ، ولكنّه لايعدو من أن يكون فرقًا لمدّة شهر ، فحسب .

     وأما الفارق الثالث والرابع ، وهو كون وجوب التعويض متوقفًا على حصول الأرباح في مدة المماطلة، وكون نسبة التعويض غير معلومة من جهة كونها مبنية على نسبة الأرباح ، فإن هذا الفرق صحيح نظريًا ، ولكن إذا رأينا من النّاحية العملية ، فإن معظم عمليات المصارف الإسلامية تدور حول المرابحة المؤجلة ، وإن تحقق الربح ونسبته في هذه العمليات معروفة لدى المصرف ولدى عملائه ، فأصبحت نسبة التعويض معروفة لدى الفريقين عملاً.

     ثم إن معظم المصارف الإسلامية تحاسب أرباحها بعد كل ستة أشهر. فلاتكون الأرباح معلومة بالضبط إلا عند نهاية كل فترة ، فلو كانت مدة المماطلة في أثناء هذه الفترة ، كيف تعرف الأرباح الحاصلة في هذه الفترة بالضبط ؟ وإن أصحاب الودائع الذين يخرجون من المصرف قبل نهاية الفترة ، إنما يعطون كدُفعة تحت الحساب ، وتصير هذه الدُّفعة تابعة للتصفية الأخيرة عند نهاية الفترة .

     فهل يكون التعويض المطالب به في أثناء الفترة تابعًا للتصفية النهائية أيضا ؟ الظّاهر: لا. فكيف يقال : إن التعويض موافق للأرباح الفعلية الحاصلة في خلال مدة المماطلة ؟

     وهناك جهة أخرى جديرة بالتأمل في هذا الموضوع . وهي أن نسبة الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار تكون أقلّ دائمًا من نسبة الربح في عقود المرابحـــة والإجارة ، فلو أراد المــديون الخيانـــة، لأمكن له أن يستمرّ في صـــرف المبالغ إلى مشروعات تُدِرّ ربحاً أكثر مما يحصل في المصرف على حساب الاستثمار، فيدفع قليلاً من التعويض ويحصل على ربح أكثر منه ، فيستمرّ في مماطلته إلى ما شاء من مدّة . فيرجع نفس المحذور الذي لجأت المصارف إلى التعويض من أجله .

     فاقتراح فرض التعويض على المماطلين اقتراح لا أعتقد أنه يحلّ مشكلة المماطلة ، لامن جهة الشّرع . ولا من الناحية العمليّة . فما هو الحلّ إذن؟

     والحلّ الحقيقي لهذه المشكلة ما قدّمناه في أول كلامنا في هذا الموضوع ، ولكن ذلك إنّما يفيد إذا أصبحت المصارف كلّها تعمل على أسس شرعيّة. أما في الظروف الحاضرة التي لاتوجد فيها المصارف الإسلامية إلا بعدد قليل ، بالنسبة إلى المصارف الربوية التقليدية التي هي مبثوثة في أنحاء العالم كلّه، فيمكن أن تلجأ المصارف الإسلامية إلى حلّ موقّت آخر، وهو أن يلتزم المديون عند توقيعه على اتفاقية المرابحة أو الإجارة بأنه إن قصّر في أداء واجبه الماليّ، فإنه سوف يتبرّع بمبلغ معلوم النسبة من الدين إلى بعض الجهات الخيريّة ويسلم ذلك المبلغ إلى المصرف ليصرف بالنيابة عنه إلى تلك الجهات . فإن قصّر المديون في الأداء لزمه أداء هذه المبالغ إلى المصرف، ولكن هذه المبالغ لاتكون مملوكة للمصرف ، ولاتكون جزء من دخله أو ربحه ، وإنما تكون أمانة عنده للصرف إلى الجهات الخيريّة .

     وإن هذا الاقتراح إنّما يفيد للضغط على المديون في أداء الدين في وقته ومن المرجوّ أن هذا الضغط يؤثر في سدّ باب المماطلة أكثر ممّا يوثر فيه اقتراح التعويض ، لأنّ مقدار هذا التبرع الملتزم به لايجب أن يكون بمقدار الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار في مدة المماطلة ، بل يمكن أن يكون أكثر من ذلك ولابأس بتعيين مقداره على أساس نسبة معينة من مبلغ الدين بما يجعل المديون يحتفظ بمواعيد الأداء . وفي الوقت نفسه لايعتبر هذا التبرع ربًا لأنه لايدخل في ملك المصرف شيئا ، بل يصرف إلى الجهات الخيّرية . ويمكن أن ينشأ لأجل ذلك صندوق خاصّ لايكون مملوكاً للمصرف ، بل يكون وقفاً على بعض المقاصد الخيرية يتولاه أصحاب المصرف ، ويكون من مقاصده أن يقدّم منه قروض حسنة لأصحاب الحاجة.(2)

     وأما المستند الشرعيّ لهذا الالتزام ، فإن الالتزام بالتبرع جائز عند جميع الفقهاء ، وإنّ مثل هذا التبرع يلزم في القضاء أيضاً عند بعض المالكية . والأصل عند المالكيّة أن الالتزام إن كان على وجه القربة ، فإنه يلزم الملتزم في القضاء باتفاق علمائهم. أما إذا كان الالتزام على وجه اليمين بمعنى أن يكون معلقاً على أمر يريد الملتزم الامتناع عنه ، ففي لزومه في القضاء خلاف . فذهب بعضهم إلى أنه لايقضى به في الحكم ، وخالفهم آخرون ، فجعلوه لازمًا في القضاء . وقد تكلم الحطّاب رحمه الله على هذه المسئلة ببسط في كتابه «تحريم الكلام في مسائل الالتزام» . وقال فيه :

     «أما إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إن لم يوفّه حقّه في وقت كذا فله عليه كذا وكذا ، فهذا لايختلف في بطلانه ، لأنه صريح الربا ، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره ، وسواء كان شيئًا معيّنًا أو منفعةً ...

     وأما إذا التزم أنه إن لم يوفّه حقّه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا لفلان ، أو صدقة للمساكين، فهذا هو محل الخلاف المعقود له هذا الباب ، فالمشهور أنه لايقضى به كما تقدم ، وقال ابن دينار: يقضى به» (3)

     وقال قبل ذلك :

     «وحكاية الباجى الاتفاق على عدم اللزوم فيما إذا كان على وجه اليمين غير مسلمة لوجود الخلاف في ذلك كما تقدم ، وكما سيأتي» (4)

     وإن الحطّاب رحمه الله وإن رجح عدم اللزوم، ولكنه قال في آخر الباب :

     «إذا قلنا إن الالتزام المعلّق على فعل الملتزم الذي على وجه اليمن لايقضى به على المشهور، فاعلم أن هذا مالم يحكم بصحة الالتزام المذكور حاكم . وأمّا إذا حكم حاكم بصحته أو بلزومه ، فقد تعيّن الحكم به ، لأن الحاكم إذا حكم بقول لزم العمل به وارتفع الخلاف» (5).

     هذا على قول بعض المالكية . أما على أصل الحنفية ، فإن الوعد غير لازم في القضاء ، ولكن صرح فقهاء الحنفية بأن بعض المواعيد قد تجعل لازمةً لحاجة الناس» (6) فعلى هذا الأساس أرجو أن هناك مجالاً للقول بلزوم هذا التبرع المقترح ، سدًّا لباب المماطلة ، وصيانة لحقوق الناس عن اعتداء المعتدين ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

أثر موت المديون في حلول الدين

     والمسئلة الأخيرة التي نريد أن نثبتها في هذه العجالة ، هي مسئلة خراب ذمة المديون بموته ، وهل يبقى الدين بعد موته مؤجلاً كما كان ، أو يصير حالاً فيطالب الدائن الورثة بأداءه من تركة الميت فورًا ؟ وقد اختلفت في هذه المسئلة أقوال الفقهاء . فذهب جمهور العلماء من الحنفيّة والشافعية والمالكية إلى أن الدين المؤجل يحُلّ بموت المديون ، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل أيضاً، ولكن المختار عند الحنابلة أن الورثة إن وثقوا الدين فإنه لايحلّ بموت المديون ، وإنما يبقى مؤجلاً كما كان . قال ابن قدامة رحمه الله :

     «فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة ، فهل تحلّ بالموت ؟ فيه روايتان : إحداهما : لاتحلّ إذا وثق الورثة ، وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن، وإسحاق وأبي عبيد ، وقال طاؤس وأبوبكر بن محمد ، والزهري وسعيد بن إبراهيم : الدين إلى أجله ، وحكى ذلك عن الحسن .

     والرواية الأخرى : أنه يحلّ بالموت ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وسوار ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأى ، لأنه لايخلو: إمّا أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة ، أو يتعلق بالمال . لايجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها ، ولازمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ، ولا رضى صاحب الدين بذممهم ، وهي مختلفة متباينة ولايجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله ، لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ، ولانفع للورثة فيه . أما الميت ، فلأن النبي قال: «الميّت مرتهن بدينه حتى يُقضى عنه» وأما صاحبه فيتأخر حقّه ، وقد تتلف العين فيسقط حقّه . وأما الورثة ، فإنهم لاينتفعون بالأعيان ولايتصرفون فيها . وإن حصلت لهم منفعة فلايسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم» (7)

     ثم ذكر ابن قدامة رحمه الله ترجيحه لمذهب من يقول ببقاء الدين مؤجلاً إذا وثقه الورثة بكفيل أو رهن ، وذكر دلائله .

     وأما الحنفية ، فإنهم وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المديون على قول جمهور الفقهاء المتبوعين ، ولكن المتأخرين منهم لم يفتهم النظر إلى أن في المرابحة المؤجلة تكون حصة من الثمن مقابلة للأجل ، كما أسلفنا ، فلو ألزمنا على تركة المشتري أن يؤخذ منها الثمن كاملاً في الحال قبل حلول الأجل ، لصارت الحصة المقابلة للمدة الباقية بدون عوض ، وفيه ضرر للمشتري الذي لم يرض بهذا القدر من الثّمن إلا إذا كان مؤجلاً بأجل متفق عليه. ولذلك أفتوا بأن المشتري لايؤدي من ثمن المرابحة في هذه الصورة إلا بقدر ما مضى من الأيام. ونعيد هنا ما قدّمناه عن الدرالمختار، قال:

     «قضى المديون الدين المؤجل قبل الحلول أو مات فحلّ بموته ، فأخذ من تركته لايأخذ من المرابحة التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام وهو جواب المتأخرين ، قنية ، وبه أفتى المرحوم أبو السعود آفندي مفتي الروم ، وعلله بالرفق للجانبين» .

     وقال ابن عابدين تحته :

     «صورته : اشترى شيئًا بعشرة نقدًا ، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أو مات بعدها يأخذ خمسة ، ويترك خمسة» (8)

     والحاصل عندي في هذه المسئلة أن جمهور الفقهاء المتبوعين وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المديون ، ولكن في عمليات البيع بالتقسيط والمرابحة المؤجلة التي يكون حصة من الثمن فيها مقابلة للأجل ، وأخذنا بمبدء حلول الدين بكامله ، لتضرر به ورثة المديون . فينبغي فيها الأخذ بأحد القولين : إما بقول المتأخرين من الحنفيّة بسقوط تلك الحصــة من الــدين التي تقابل المـــدة الباقيــة من الأجل المتفق عليه ، فلا يؤخذ من التركة إلا بقدر مامضى من الأيام ، أو يؤخذ بقول الحطاب من بقاء الدين مؤجلا كما كان ، بشرط ان يوثقه ورثـــة المــديون بـوثيقـــة معينــة ولعل الصورة الأخيــرة أولىٰ للبعــد عن تذبذب الثمن بآجال مختلفة  .... مشابهة صورته للمعاملات الربوية . والله سبحانه وتعالى أعلم وله الحمد في الأول والآخر . وصلى الله تعالى على نبيه وعلى آله صحبه وتابعيهم ومن والاهم ...

*  *  *

الهوامش :

(1)     المهذب للشيرازي 1 : 370 .

(2)     روضة الطالبين 5 : 95 والمهذب للشيرازي 15 : 377.

(3)     تحـــريـر الـــكلام في مســـائل الالتــزام ، للحطّاب رحمــــه الله ص 176 .

(4)     نفس المرجع ص 169 .

(5)     المرجع السابق ص 185 من طبع دارالغرب الإسلاميّ ، بيروت 1404هـ .

(6)     ردالمحتار ، مبحث البيع بالوفاء .

(7)     المغني لابن قدامة 4 : 486 كتاب المفلس ، وراجع أيضاً الشرح الكبير 4 : 502 ، وراجع لمذهب الحنفية في حلول الدين بموت المدين خلاصة الفتاوى 3 : 95 .

(8)     رد المحتار على الدرالمختار 6 : 757 .

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر 1426هـ = مارس – أبريل 2005م ، العـدد : 2 ، السنـة : 29.